كتبه للمفكرة/ شريف عبد العزيز
مفكرة الاسلام: تفجَّرت قضية التمويل الأجنبي للمنظمات الأهلية في مصر وتسارعت وتيرة الأحداث فيها بصورة لافتة للنظر، ثم ما لبثت أن تبخرت كأنها لم تكن، بعد أن راهن العالمون ببواطن الأمور ودهاليز المطبخ السياسي في مصر وأمريكا على أنها مجرد زوبعة في فنجان وأن متانة العلاقات الأمريكية المصرية أكبر من هذه الأزمات العابرة، في حين انتشى كثير من المصريين والمتحمسين للموقف المصري وظنوا أن عهدًا جديدًا قد بدأ في العلاقات الخارجية بين مصر ودول العالم عامة وأمريكا خاصة، وأن السيادة والكرامة المصرية قد استرجعت من جديد بعد أن بددها انبطاح النظام البائد، ولكن كل هذه الأمنيات والأحلام تبخرت وزالت مثل سراب الصيف الحار مع إقلاع الطائرة الأمريكية التي حملت المتهمين الأمريكيين وطي القضية بالكلية، فما الذي جرى وكيف نفسر ما حدث؟
للإجابة على هذا السؤال لابد من التحلي بقدر وافر من الحيادية وعدم ترك النفس والعقل فريسة للتصورات الجاهزة والأفكار المسبقة، فالثقة المفرطة والتصديق الكامل في عصر غلب فيه الكذب والخداع والغش والتدليس وبالأخص في السياسة يعتبر من الغفلة والبله الذي لا يغتفر خصوصًا من جانب المحللين والمراقبين الذين يقع عليهم عبء تفسير الأحداث وتوعية الجماهير بمستقبل بلادهم لتكون خياراتهم على بينة ولا يستدرجون لمخططات أعدت سلفًا وبُيِّت لها بليل، وتواطأت عليها للأسف الشديد بعض القوى السياسية التي أحسنَّا بها الظن كثيرًا.
كثير من المراقبين والمتابعين للشأن المصري بعد الثورة عزوا الأداء السياسي المضطرب للمجلس العسكري لضعف خبرته السياسية وافتقاره للرؤية الإستراتيجية الملائمة لطبيعة المرحلة وعدم أهليته للمنصب بحكم مجاله العسكري، وحُمِّلت كثير من الأزمات الواقعة في مصر خلال العام الماضي على هذا السبب، وتبارى الكثير من المحللين والكتَّاب السياسيين في تفسير أزمات المرحلة من خلال هذه الرؤية والتماس الأعذار للمجلس والدفاع عنه وعن قادته، بل واستهجان كل رأي مخالف لذلك، ولكن قضية التمويل الأجنبي أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن المجلس العسكري يمتلك خبرات سياسية فائقة وقدرات تفاوضية عالية مكنته من أن يتلاعب بالأمريكان والمصريين على حد السواء، وأثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه لاعب سياسي بدرجة قدير.
المجلس يتلاعب بالأمريكان
المجلس العسكري استفاد كثيرًا من كونه أحد أضلاع نظام مبارك السابق وقد شاهد وعاصر الكثير من المواقف المخزية لمبارك وانبطاحه الدائم لرغبات أمريكا و"إسرائيل"، وكيف أن هذا الولاء والتبعية التامة لأمريكا لم تحل دون المصير المحتوم والخلع والسجن لمبارك؟ رأى كيف كانت أمريكا وهي تعتبر مبارك أخلص رجالها وأقرب عملائها، رآها تدعم خصوم مبارك السياسيين ومعارضيه ـ من العلمانيين فقط ـ وتحتضنهم وتمدهم بالأموال والخبرات اللازمة، مثل حركات كفاية و6 أبريل وجبهة البرادعي وأيمن نور وجمعيات المجتمع المدني وحقوق الإنسان، وتستخدمهم كأوراق ضغط على مبارك لاستلال المزيد من التنازلات والانبطاحات، رأى كيف تخلت أمريكا عن مبارك في طرفة عين، لذلك قرر المجلس أن ينتهج نهجًا مغايرًا للنهج الانبطاحي لمبارك.
أمريكا أرادات أن تطبق سياساتها القديمة مع المجلس العسكري، لتحتويه سريعًا وتتلافى معه آثار الثورة الشعبية العظيمة، فمارست عليه ضغوطًا كثيرة من أجل إخضاعه إرادتها وأوامرها بداية من توجيهها انتقادات علنية كثيرة من الساسة الأمريكان، ثم الإيعاز لدول الخليج وأغلبها واقع تحت التأثير الأمريكي بمنع أو تعطيل المساعدات المالية التي وعدوا المصريين بها للخروج من أزمتهم الطاحنة، ثم الضغط على الصندوق الدولي للنقد لرفض طلبات مصر في المنح والقروض، لمزيد من الضغوط والتضييق على حكام مصر الجدد، ثم بدأت الرحلات المكوكية للساسة الأمريكان الكبار من عينة كلينتون وكارتر وكيري وفليتمان تتوافد على أبواب القوى السياسية المصرية وتعقد اجتماعات مغلقة وموسعة مع الرموز السياسية الكبيرة، وكان لحزب الحرية والعدالة النصيب الأكبر من زيارات الساسة الأمريكان، في حين كانت اجتماعاتهم مع قادة المجلس العسكري على هامش الزيارة ودون إثارة قضايا أو فتح ملفات هامة أي مجرد زيارات بروتوكولية لا قيمة لها، في إشارة واضحة إلى تجاهل الأمريكان لقادة العسكري، ثم كانت ثالثة الأثافي في زيارة وفد المجلس العسكري لأمريكا والذي كان سيبحث ملف التسليح الأمريكي للجيش المصري، وقد تعرض الوفد هناك لتجاهل بالغ وصل لحد الإهانة، مما حدا بالوفد لئن يقطع زيارته ويعود سريعًا، لتنفجر قضية التمويل الأجنبي بعدها مباشرة وتتسارع وتيرتها كما رأينا جميعًا.
المجلس العسكري عكس ما يظن الكثيرين يحكم قبضته جيدًا على البلاد، وجهاز المخابرات يسيطر تمامًا على الملفات الحساسة في مصر، وهناك عشرات الأدلة على صدق هذا الكلام، لا حاجة لذكرها لأنها ستستغرق مقالتنا، والخلاصة أن البلاد رغم خروقاتها الأمنية الكثيرة مازالت تحت القبضة المخابراتية القوية للمجلس، ومنظمات المجتمع المدني واحدة من الملفات التي كانت تحت قبضة وسيطرة المجلس، وقد ادخرها كي يلاعب بها الأمريكان في الوقت المناسب، وبالفعل تم تفجير القضية في الوقت المناسب، وإظهارًا للحيادية وانتظارًا للحظة الحسم تم تسليمها للقضاء، وصمد المجلس للضغوط الأمريكية واستغل لهفة الأمريكان على رعاياهم المحبوسين في السفارة، وسخر كثيرًا من الزيارات المكوكية للساسة الأمريكان وأعضاء الكونجرس، واعترض بشدة وأدان محاولات السفيرة الأمريكية الحمقاء سكوبي الضغط على قاضي التحقيق، وأرغم الأمريكان في نهاية المطاف على إرسال أعتى ساستهم وأشدهم كرهًا للعرب والمسلمين وأخلصهم لـ"إسرائيل" وهو جون ماكين، وأرغم على الجلوس والتفاوض مع المجلس العسكري وتنفيذ كل طلباته خاصة المالية والتقنية منها، فبدأت دول الخليج في الإفراج عن المساعدات المصرية، وبدأ صندوق النقد في تنفيذ طلبات مصر، وانتهت للأبد وتيرة الانتقاد الأمريكي لسياسات المجلس العسكري، وبمجرد إجراء هاتفي طويت القضية وأفرج عن الأمريكان وعادوا إلى بلادهم في ساعات معدودة، وأظهر المجلس العسكري أن اللاعب الأوحد على الساحة وأن سائر القوى السياسية مجرد دمى يستكمل بهم الديكور الديمقراطي في مصر بعد الثورة.
المجلس يتلاعب بالمصريين
أما المصريون فتلاعب المجلس بهم في القضية ربما فاق تلاعبه بالأمريكان، فالمجلس الذي جاء على أسنة الرماح وهتفت الجماهير باسمه كحامي للثورة على حد وصفهم، مع مرور الوقت وبطء القرارات وانهيار الأمن وتردي الاقتصاد، بدأت شعبيته في الانخفاض ومكانته في التداعي واتهم المجلس أنه صنيعة مبارك وعلى دربه يسير، وبلغ التجرؤ علي قادته مبلغ السب والشتم والوصف بأحط الأوصاف، وكثرت الأزمات التي ألقي فيها باللوم على المجلس بصورة مباشرة وغير مباشرة، وفي ظل إصرار المجلس على التمسك بسلطته لآخر لحظة ووفق ما أعلنه سلفًا، زادت وتيرة التوترات بين القوى السياسية والشعب من جهة والمجلس وبعض القوى السياسية الموالية له من جهة أخرى، وبدا للعيان أن مصر مقبلة على ثورة ثانية قد لاحت نذرها بالفعل، حتى كانت قضية التمويل الأجنبي التي افتعلت من أجل امتصاص الغضب الشعبي، وإلقاء اللوم في كل الاضطرابات والانفلات الأمني على التمويل الأجنبي، واستجاشة الشعور الوطني والقومي لدى المصريين ضد عدوهم الأكبر ـ أمريكا ـ وبالفعل التقط المصريون الطعم بمنتهى السهولة، وأصبح التمويل الأجنبي هو المشجب الذي علقت عليه كل الأزمات في مصر العام المنصرم، وصدق المصريون أن اللهو الخفي والطرف الثالث هو التمويل الأجنبي والأمريكان ـ مع إقرارنا بوجود دور واسع لهذا المنظمات في تأجيج الأوضاع في مصر ـ وفجأة توقفت التظاهرات الفئوية الكبرى، وانتهت محاولات اقتحام وزارة الداخلية وغيرها من مؤسسات الدولة، لا لشيء إلا لأن حنفية التمويل الأمريكي قد أغلقت، وارتفعت شعبية العسكر مرة أخرى وأصبح الناس متقبلين لفكرة الحاكم العسكري، وفعلاً في الأيام القليلة الماضية التي تلت انفجار القضية ترشح عدة قادة عسكريين سابقين للرئاسة، وأظهرت آخر الاستطلاعات عن تقدم بعضهم وهو أحمد شفيق في سباق الترشح على كثير من المرشحين المدنيين، ولما أنهى المجلس الأزمة وأطلق سراح الأمريكان ألقي باللائمة كلها على القضاء؛ لأن القضية كانت منذ البداية في يده، وأصبح المستشار عبد المعز إبراهيم كبش الفداء للقضية ليصب عليه الجميع اللعنات، في حين تبرئ ساحة المجلس رغم أن المفاتيح كلها بيده.
والأخطر من هذا أن المجلس بإثارته لقضية التمويل الأجنبي وافتعاله الأزمة مع الأمريكان قد استطاع أن يقضي على ثورة داخلية كانت على وشك الانفجار بين صفوف الضباط متوسطي الرتبة بالجيش المصري، فمن المعروف أن قادة المجلس يواجهون قلاقل داخلية بسبب تنامي شعبية بعض الحركات الاحتجاجية داخل الجيش مثل حركة 8 أبريل، 27 مايو، واستمرار حبس بعض الضباط المشهورين بتأييدهم للثورة من البداية مثل الضابط أحمد شومان منذ عدة شهور، وقد أفادت مصادر مطلعة أن رواتب الضباط في الجيش قد ارتفعت مرتين الأولى في شهر سبتمبر من العام الماضي والثانية في يناير الماضي حتى بلغ راتب الضباط من الرتب المتوسطة أكثر من عشرة آلاف جنيه في الشهر، ففجَّر المجلس هذه القضية ليحبط أي ثورة داخلية ضده؛ لأن أي ثورة ضد المجلس اليوم ستعتبر على الفور خيانة داخلية يمولها الأمريكان ضد المجلس والشعور الوطني كان متأججًا ومستعدًّا لتقبل هذه الفكرة، وبالتالي ستفشل أي ثورة داخل الجيش وسينكل بقادتها أيما تنكيل، وبهذا كله قد أثبت المجلس العسكري أنه اللاعب الأوحد على الساحة وأنه المسيطر الحقيقي على مقاليد الأمور في مصر، وأن اللجنة التأسيسية لكتابة الدستور ستواجه بصعوبات بالغة وضغوط كثيرة داخلية وخارجية في توصيف وضع المجلس العسكري والجيش، وأغلب الظن أن الجيش سيحتفظ بوضعية خاصة في الدستور تكفل له لعب الدور الأهم والأبرز في السياسة المصرية، وكل الاعتراضات ستذهب أدراج الرياح، ولا عزاء للثورة والثوار.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق